ا. م. د. سامي محمود ابراهيم كلية الآداب/ جامعة الموصل/ العراق
حين رمى عقل الحداثة الغربية موقفه من الوجود استيقظ نتشة قائلا:
أين الإله؟
أنا سأقول لكم ذلك! لقد قتلناه أنتم وأنا! نحن كلنا قتلناه!
لكن كيف فعلنا ذلك؟
كيف استطعنا أن نفرغ البحر؟
من أعطانا الإسفنجة لمحو كل هذا الأفق؟
ماذا فعلنا بفصلنا الأرض عن شمسها؟
إلى أين تقودها حركاتها، حركاتنا؟
أبعيدا عن كل الشموس؟
ألم نندفع في منحدر لا قرار له؟
أما يزال هناك أعلى وأسفل؟
ألسنا نتيه صوب عدم لانهائي؟
لذلك تبدو العودة إلى مراجعة موقفنا من الفكر الفلسفي ضرورة ملحة لبحث جذور الأزمة الفكرية التي نعانيها.
ومعظم الرؤى والتصوران التي يتبناها خطابنا الفلسفي متطرفة وغير مكتملة بل ومثيرة للسخرية..
لذلك بقيت انسانيتنا مهدورة من قبل الطاغية المتسلط. وهذا كله تحركه الخلفية المعرفية للغرب بكافة ابعادها السلطوية وتغذيها النزعة الامريكية العابرة للقارات.
وهكذا نتيجة الشعور بالياس يحاول الخطاب الفلسفي ان يخضع حياتنا للمصادفة وينفي لدينا الشعور بالمسوؤلية والوعي بالمستقبل.
كل هذا ادى الى انهيار المستقبل ذلك البعد الانساني المهم واصبحنا نحكم الظن والاحتمال.. وهذا ما يفسر عداواتنا وحروبنا الطائفية وقلة وعينا وحيلتنا وهواننا على العالم.
هكذا تنتصر الفلسفة الامريكية وايديولوجياتها… اما نحن فبقينا نجتر نفايات الفكر الغربي ونعمل على تسويق بضاعته التقنية والتكنولوجية. ولو تم رفع هذه الوسائل والتقنيات لانكرنا الزمن ذاته ولثبت شرعا وعقلا اننا لا نستحق العيش فيه.
فمن دموع ضحايا القتل والتهجير تغتسل الفلسفة لتصلي صلاة الغائب على العقل الشرقي.. من دماء الشهداء والمعذبين ترسم افكار العرب والمسلمين… من حيرة المثقف الناظر في وجه السياسة البغيض يكتب مستقبل الامة..
كما ان مستقبلنا الغائب اللاجيء الى الغرب مرجعيتنا فيه جحافل النازية وخليفتها الفاشية، نتقمص على اسواره بشاعة الشوفينية ووظاعة الليبرالية الصهيو أمريكية…
ونحن في وسط هذا التيار العنيف نتنفس الالم من بشاعة الكوارث التي سببتها اسطورة الفلسفات اللاعقلانية المدمرة.. فمن الصعب ان نعقل في حضارة الجنون الوحشي المستعر.
ونحن امام المسرح العالمي المخيف نشاهد على خشبته الاحداث المرعبة من تطرف وقتل وعنف وارهاب… جماعات وعصابات منظمة وممولة لاثارة الفتن والمشاكل، شركات احتكارية عابرة للقارات، شعوب مهددة بالابادة والتهجير.
وهكذا تتبدد أوهامنا في قصة الفلسفة، حتى النظام الأخلاقي والروحي تزيحه فوضى اللاحتمية، فالكون عقلاني بنسبة ضئيلة جدا.
اما التقنية والتكنولوجيا المعاصرة والتي افلتت من كل السلطات بدأت تستهدف جينات الانسان الحقيقي ، تستهدف كل ما هو اخضر وجميل..
وعلوم الذرة والاشعة والطاقة ستوجه مدافعها الى الارض ليتم تقسيمها وابادتها ومن ثم مسح رسالة الانسان عليها.
وليس مستغربا ان يكون الموت الغدر الاعتداء الاغتصاب التجبر الظلم شعار فلسفة الأخر، لكن المستغرب والأغرب وعينا المعطل بحقيقة هذا الواقع.
نغني الحرية وصدورنا تتشظى أنينا من أعظم أنواع القهر والأسر والعبودية.
تنهشنا كلاب الإيديولوجيات المختلفة بأفكارها الهدامة المحظورة إنسانيا.
والتي لا يمكن النيل منها وكشف أسرارها وأبعادها ومخططاتها إلا عندما نحمل شعار ” فلنتفكر” بروح صادقة أمينة تكتب بمداد ” العقل والايمان”..
إذا نحن بحاجة الى الفلسفة روحيا وماديا لنتمكن من اليات النهوض، نستثمر الذات الانسانية في الوجود فنتوسع داخل فلك الحضارة.
وبذلك نتخلص من حتمية السقوط والانحدار الى حتمية النهوض في مسار الحياة العالمية. هذا التحول يتزامن مع رؤية فلسفية عالمية كونية تمتلك بصرا حادا يغوص في اعماق بئر الواقع لينتشل سر كينونتنا الغامض …
معنى هذا ان الاجابة التي تغري طموح الفلسفة وكبرياءها محجوبة عن محض التفكير الإنساني المجرد المحدود ذي الوسائل المحدودة. أليست هذه دعوة لأن يلزم الفيلسوف حدوده وأن يعرف المسالك والفجاج التي يمكن أن تمثل سبحا للعقل والتجربة ويعمل من خلالها ليراكم الحقيقة. أم أن الخوف الأزلي الذي لا ينفك يلازم الفلسفة من المحدود والمحسوس، سيجعل من الفيلسوف مستكبراً عن الحقيقة التي يدعيها هدفاً ومحبوبا أسمى. إن الدين وأسراره الروحية والإنسان وعوالمه والأخلاق والكون هي محاور ثمينة يمكن أن تمثل موضوعاً يلبي طموح او حاجة التفلسف لدى الإنسان الفيلسوف ، وهو ما يجعل عقله دوما منتبها؛ لأن السر العجيب والجميل الذي يحسه الفيلسوف داخل الإنسان والمحيط الطبيعي والكوني أثمن من أن يغفل عنه، فالبحث والتأمل في المحسوسات والمعنويات وأسرارها هو ضرب من المتعة ومن تحمل المسؤولية، لا ينفك يعطى للإنسان من المعقولات ذات الدلالة والمغزى ما يجعله يرى من الآيات في النفس والآفاق حتى يتبين له الحق. فآيات النظر دالة على النفس والآفاق، وعلى قيومها سيد الإنسان وخالقه سبحانه وتعالى.